الأصل الخامس
((بيان الله سبحانه لأولياء الله وتفريقه بينهم وبين المتشبهين بهم من أعداء الله والمنافقين والفجار ويكفي في هذا آية في سورة آل عمران وهي قوله
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)(56) وآية في سورة المائدة وهي قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)(57) وآية في سورة يونس وهي قوله
أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاهُمْ يَحْزَنُونَ)(58) ثم صار الأمر عند أكثر من يدعي العلم وأنه من هُداة الخلق وحفاظ الشرع إلى أن أولياء الله لا بد فيهم من ترك اتباع الرسل ومن تبعهم فليس منهم ولابد من ترك الجهاد فمن جاهد فليس منهم ولابد من ترك الإيمان والتقوى فمن تعهد بالإيمان والتقوى فليس منهم. يا ربنا نسألك العفو والعافية إنك سميع الدعاء))
لما بين الشيخ الإمام رحمه الله في الأصل الرابع العلم والعلماء والفقه والفقهاء ومن تشبه بهم وهو ليس منهم حفاظاً منه لحق الشريعة أولاً ولحق العلماء ثانياً جاء بهذا الأصل لبيان الأولياء وعلى رأسهم الرسل والأنبياء والصحابة والصديقيين والصالحين والشهداء ومن ليس منهم من الكذابين والدجلة والمشعوذين لحفظ الشريعة أيضاً ولحق الأولياء والصالحين حتى لا يدخل فيهم من ليس منهم .
ولأهمية هذا الأصل العظيم ألف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" وهو أحد كتب التراث الثمينة التي تحمي ثغراً من ثغور العقيدة في مفهوم ولاية الله وتُبطل ما يدعيه أدعياء الولاية والسحرة وأشباههم من الأحوال الشيطانية والمخارق الكاذبة.
وإبطال ما يدّعيه أهل الروحية الحديثة أو تحضير الأرواح التي تختفي تحت ستار العلم والتقدم العلمي الذي يضفي عليها طابع التقدير والاحترام فهذا الكتاب من خير ما يكشف حال هؤلاء ويميز بين أحوالهم وأحوال أولياء الله المؤمنين الصادقين وهو نادر في موضوعه إن لم يكن الوحيد.( )
وقد عقد الشيخ المؤلف هذا الأصل لأن أكثر ضلال الناس جاء من قبيل وضع بعض الصالحين أو المجتهدين في غير موضعهم ويدٌعون لهذا الولي حقوقاً و ربما عبدوه من دون الله تعالى فأراد المؤلف أن يبين هذا الأصل لأن أكثر تعلق الناس بالشرك إنما جاء من قبل التعلق بالأولياء. ولهذا عقد الشيخ رحمه أبوابا في كتاب التوحيد لبيان خطر التعلق بالصالحين والأولياء فعقد:
باب( ما جاء في أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين)
وباب(ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح،فكيف إذا عبده؟)
وباب(ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيّرها أوثاناً تعبد من دون الله)
وقد بين الله هذه الأمور في كتابه بياناً كافياً شافياً ولم يقتصر الشارع على بيان صفات أولياء الله بل بين الفرق بينهم وبين أولياء الشيطان وهذا من قواعد الشرع أن يبين الشئ وضده.
إذاً من هو الولي وما هي الوَلاية وما هي صفات الأولياء وكيف تنال الوَلاية ؟
أولياء: جمع ولي والولي: له معنى في اللغة: وهو المحب الناصر كما في قوله جل وعلا
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(المائدة 55)
فالولي: هو الناصر والوَلاية بالفتح هي المحبة والنصرة. أما الوِلاية بالكسر فهي الإمارة هذا في اللغة.( ) فالولي: هو المحب الناصر,تقول هذا وليي يعني محباً لي وناصراً لي ومنه قول الله عز وجل(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (التوبة 71). أما في الاصطلاح: فالولي عند أهل السنة هو: كل مؤمن تقي ليس بنبي.( ) أشتمل التعريف على أن الولي من جهة الاسم الاصطلاحي لا يدخل فيه الأنبياء أما من جهة الأصل فإن الأنبياء أولياء.( )
والولاية:ضد العداوة وأصل الولاية: المحبة والقرب وأصل العداوة:البغض والبعد.( ) وعلى هذا فإن الولاية تدور على أمرين: المحبة_والنصرة/ كما أن العداوة، دائرة على أمرين : البغضاء_ والكره.
ويأتي الولي:في اللغة : بمعنى القريب وفي الشرع: العالم بالله المواظب على طاعته المخلص في عبادته.
قال: شيخ الإسلام:"الولي مشتق من الولاء وهو القرب كما أن العدو من العدو وهو البعد فولي الله من والاه بالموافقة له في محبوباته وتقرب إليه بما أمر به من طاعاته"( )
والولي: هو من انعقد بينك وبينه سبب يواليك وتواليه به فالإيمان سبب يوالي به المؤمنين بعضهم بعضاً ويوالون به ربهم بالطاعة، ويواليهم به الثواب والنصر والإعانة.
قال تعالى
أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاهُمْ يَحْزَنُونَ)
والإنسان بالنسبة لرب العالمين إما وليٌ وإما عدو ولكن الأولياء يتفاوتون في درجاتهم وفي قربهم من الله وفي محبتهم لله ،وفي تعظيمهم لشرع الله ؛ كما أن أعداء الله يتفاوتون في العداوة ؛ والأولياء ليسوا على درجة واحدة إنما المهم أن نفهم معنى الوَلاية ،وحقيقة الوَلاية ؛الوَلاية كما تقدم أمر مكتسب يكتسبه العبد بإيمانه وعمله الصالح وبتوفيق الله تعالى له.
فالسمة الأولى لأولياء الله التي يتميزون بها عن غيرهم هي اتباع النبي واتباع النبي يكون في أمرين: الدرجة الأولى: _فيما فرض_. الدرجة الثانية: _وفيما ندب إليه من الأعمال_.
ودليل ذلك قول النبي :"قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته( ) بالحرب".
ثم بعد أن ذكر جزاء الأولياء وانتصار الله لهم قال:"ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل" وهذا طريق تحصيل الولاية.
قال:" وما تقرب إلي عبدي بشيء أحبَّ إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه"( ).
فذكر الطريقين اللذين تحصل بهما ولاية الله عز وجل، وهذا تفصيل لما أجملته آية
فَاتَّبِعُونِي) فالاتباع للنبي يكون في أداء الفرائض أولاً؛ لأنها أحب ما يتقرب به إلى الله عز وجل، ثم بالنوافل ثانياً.
ومن هنا نعلم أخوتي أن من أشتغل بالنوافل مضيعاً للفرائض قد خالف الطريقة الربانية في تحصيل الولاية الشرعية إذ الأصل الانشغال بالواجب والفرض ثم تكميله بالمستحب والنفل. وكذلك يبدأ العبد بتكميل نفسه ثم تكميل غيره كما في سورة العصر{وَالْعَصْرِ, إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ, إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}
قال:العلامة السعدي رحمه الله تعالى"فبالأمرين الأولين، يكمل الإنسان نفسه، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره وبتكميل الأمور الأربعة، يكون الإنسان قد سلم من الخسار، وفاز بالربح العظيم" فالأمرين الأولين هما:
1_الذين آمنوا: ولا يصح إلا بالعلم / 2_عملوا الصالحات: أي العمل به./ والآخرين 3_ تواصوا بالحق: أي الدعوة إليه /4_تواصوا بالصبر: أي الصبر على الأذى فيه.
ولذلك قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه) وإذا أحب الله عبداً فقد تولاه فأولياء الله عز وجل لا يتميزون عن غيرهم بمظهر، بل هم كغيرهم من أهل الإسلام لا يتميزون عنهم بلباس ولا بهيئة، لكنهم يتميزون عن غيرهم بعملهم الصالح، فالمظاهر لا تمييز فيها، لكن المخابر والأعمال هي التي يدور عليها التمييز بين أولياء الله، وبين غيرهم من الناس، فما هو العمل الذي يميز أولياء الله عن غيرهم؟
قول الله تعالى
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) هذا هو المعيار الفارق والميزان الدقيق لبيان حقيقة الولاية، فالولاية التي يثبت بها للمؤمن الانتساب إلى الله هي أن يكون متبعاً للنبي ظاهراً وباطناً.
فعلى قدر ما يكون مع الإنسان من اتباع هدي النبي يكون عنده بقدر ذلك من ولاية الله له، وبقدر ما يكون معه من تقصير فإنه ينقص عنه من ولاية الله له بقدر ما حصل منه من التقصير، والناس في هذا درجات متفاوتة، لا يحدها وصف.
فكأن الشيخ رحمه الله يريد أن يقول بإيراد هذه الآية التي تسمى عند السلف آية المحنة أن من أبرز علامات الولي أن يكون متبعاً لرسوله .
ثم ذكر رحمه الله قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) في سياق بيان أوصاف أولياء الله المتقين أورد الشيخ ثلاث آيات هذه الآية ثانيها .
قال:جمع من المفسرين نزلت في أبي بكر ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم الذين قاتلوا المرتدين وذهب بعضهم أنها نزلت في أبي موسى الأشعري وقومه وأنظر للمزيد تفسير ابن جرير الطبري والقرطبي وابن كثير.
وقال: العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى" من صفاتهم الذل للمؤمنين، والتواضع لهم ولين الجانب، والقسوة والشدة على الكافرين، وهذا من كمال صفات المؤمنين، وبهذا أمر الله نبيه ، فأمره بلين الجانب للمؤمنين بقوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} وقوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
وأمره بالقسوة على غيرهم بقوله:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} وأثنى تعالى على نبيه باللين للمؤمنين في قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} الآية.
وصرح بأن ذلك المذكور من اللين للمؤمنين، والشدة على الكافرين، من صفات الرسول ، وأصحابه رضي الله عنهم، بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} ...( ).
وقال العلامة السعدي:"يخبر تعالى أنه الغني عن العالمين، وأنه من يرتد عن دينه فلن يضر الله شيئا، وإنما يضر نفسه, وأن لله عبادا مخلصين، ورجالا صادقين، قد تكفل الرحمن الرحيم بهدايتهم، ووعد بالإتيان بهم، وأنهم أكمل الخلق أوصافا، وأقواهم نفوسا، وأحسنهم أخلاقا، أجلُّ صفاتهم أن الله { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } فإن محبة الله للعبد هي أجل نعمة أنعم بها عليه، وأفضل فضيلة، تفضل الله بها عليه، وإذا أحب الله عبدا يسر له الأسباب، وهون عليه كل عسير، ووفقه لفعل الخيرات وترك المنكرات، وأقبل بقلوب عباده إليه بالمحبة والوداد.
ومن لوازم محبة العبد لربه، أنه لا بد أن يتصف بمتابعة الرسول ظاهرا وباطنا، في أقواله وأعماله وجميع أحواله، كما قال تعالى:{قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } كما أن من لازم محبة الله للعبد، أن يكثر العبد من التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل، كما قال النبي في الحديث الصحيح عن الله: "وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، ولا يزال [عبدي] يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحبه فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه.
ومن لوازم محبة الله معرفته تعالى، والإكثار من ذكره، فإن المحبة بدون معرفة بالله ناقصة جدا، بل غير موجودة وإن وجدت دعواها، ومن أحب الله أكثر من ذكره، وإذا أحب الله عبدا قبل منه اليسير من العمل، وغفر له الكثير من الزلل.
ومن صفاتهم أنهم { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } فهم للمؤمنين أذلة من محبتهم لهم، ونصحهم لهم، ولينهم ورفقهم ورأفتهم، ورحمتهم بهم وسهولة جانبهم، وقرب الشيء الذي يطلب منهم.
وعلى الكافرين بالله، المعاندين لآياته، المكذبين لرسله أعزة، قد اجتمعت هممهم وعزائمهم على معاداتهم، وبذلوا جهدهم في كل سبب يحصل به الانتصار عليهم، قال تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُمْ مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } وقال تعالى: { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }.
فالغلظة والشدة على أعداء الله مما يقرب العبد إلى الله، ويوافق العبد ربه في سخطه عليهم، ولا تمنع الغلظة عليهم والشدة دعوتهم إلى الدين الإسلامي بالتي هي أحسن. فتجتمع الغلظة عليهم، واللين في دعوتهم، وكلا الأمرين من مصلحتهم ونفعه عائد إليهم.
{ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } بأموالهم وأنفسهم، بأقوالهم وأفعالهم. { وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ } بل يقدمون رضا ربهم والخوف من لومه على لوم المخلوقين، وهذا يدل على قوة هممهم وعزائمهم، فإن ضعيف القلب ضعيف الهمة تنتقض عزيمته عند لوم اللائمين، وتفتر قوته عند عذل العاذلين. وفي قلوبهم تعبد لغير الله، بحسب ما فيها من مراعاة الخلق وتقديم رضاهم ولومهم على أمر الله، فلا يسلم القلب من التعبد لغير الله، حتى لا يخاف في الله لومة لائم.
ولما مدحهم تعالى بما من به عليهم منَّ الصفات الجليلة والمناقب العالية، المستلزمة لما لم يذكر من أفعال الخير أخبر أن هذا من فضله عليهم وإحسانه لئلا يعجبوا بأنفسهم، وليشكروا الذي مَنَّ عليهم بذلك ليزيدهم من فضله وليعلم غيرُهم أن فضل الله تعالى ليس عليه حجاب، فقال:{ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أي: واسع الفضل والإحسان، جزيل المنن، قد عمت رحمته كل شيء، ويوسع على أوليائه من فضله، ما لا يكون لغيرهم ولكنه عليم بمن يستحق الفضل فيعطيه، فالله أعلم حيث يجعل رسالته أصلا وفرعا"أ.هـ
وفي هذه الآية من صفات أولياء الله:
1_ يحبهم الله جل وعلا ويحبونه: فيه أثبات المحبة لله وانه يود عباده ويودونه جل وعلا وبلوغ هذه المرتبة هي غاية ما يتمناه أولياء الله ولهذا قال بعض السلف" ليس الشأن أن تُحِبَّ ولكن الشأن أن تُحَبْ" فإن محبة الله جل وعلا يدعيها المشركون، يدعيها الضالون أي ليس أن تكون تحب الله فحسب بل الشأن كل الشأن أن يحبك الله تعالى هذا بالنسبة لمحبة الله لعباده.
أما بالنسبة لمحبة العبد لربه فقد قال فيها:ابن القيم رحمه الله تعالى:" وأصل دعوة جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم إنما هو عبادة الله وحده لا شريك له المتضمنة لكمال حبه وكمال الخضوع والذل له والإجلال والتعظيم ولوازم ذلك من الطاعة والتقوى.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس عن النبي أنه قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" وفي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "يا رسول الله والله لانت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي" فقال: "لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال والذي بعثك بالحق لانت أحب إلي من نفسي فقال الآن يا عمر"
فإذا كان هذا شأن محبة عبده ورسوله ووجوب تقديمها على محبة النفس ووالده وولده والناس أجمعين فما الظن بمحبة مرسله سبحانه وتعالى ووجوب تقديمها على محبة ما سواه ومحبة الرب تعالى تختص عن محبة غيره في قدرها وصفتها وإفراده سبحانه بها. فان الواجب له من ذلك كله أن يكون إلى العبد أحب إليه من ولده ووالده بل من سمعه وبصره ونفسه التي بين جنبيه فيكون إلهه الحق ومعبودة أحب إليه من ذلك كله والشيء قد يحب من وجه دون وجه وقد يحب بغيره وليس شيء يحب لذاته من كل وجه إلا الله وحده ولا تصلح الإلوهية إلا له ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا والتأله هو المحبة والطاعة والخضوع"( )
2_أذلةً على الؤمنيين أعزةً على الكافرين: قال: عليّ رضي الله عنه:" أهل رقة على أهل دينهم أهل غلظة على من خالفهم في دينهم"
وقال: ابن عباس: "هم للمؤمنين كالوالد للولد والسيد للعبد، وهم في الغلظة على الكفار كالسبع على فريسته قال: الله تعالى: " أشداء على الكفار رحماء بينهم "( ). أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يحبون المؤمنين ويذلون لهم ويتألفونهم ويواخونهم ويتولونهم ويبغضون الكافرين وهم أعزة عليهم لا يذلون لهم ولا ينكسرون لهم ولا يحبونهم إذاً المعنى أنهم يعملون بعقيدة الولاء والبراء ، الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين.
3_ يجاهدون في سبيل الله: الجهاد فى سبيل الله بالنفس واللسان والمال ، وذلك هو تحقيق دعوى المحبة. لأن اعز ما يملك العبد هو ماله ونفسه فإذا بذلهما في سبيل محبوبه الأول أستحق وصف بالوَلاية والجهاد في سبيل الله كما قال: عنه النبي "رأسُ الأمْرِ الإِسْلامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهادُ"( ) والجهاد في سبيل الله لا يقتصر على قتال الكفار فقط وإن كان هو المراد ابتدئا فالجهاد منه ما يكون باليد ومنه ما يكون باللسان ومنه ما يكون بالتأليف والكتابة وغيرها من الوسائل.
قال:ابن القيم" قال الله تعالى:{والذين جاهدوا فينا لنهديّنهم سبلنا} (العنكبوت 69) علق سبحانه الهداية بالجهاد, فأكمل الناس هداية أعظمهم جهادا, وأفرض الجهاد جهاد النفس, وجهاد الهوى, وجهاد الشيطان, وجهاد الدنيا فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته, ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد. قال الجنيد: "والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة لنهدينهم سبل الإخلاص" ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطنا, فمن نصر عليها نصر على عدوه, ومن نصرت عليه نصر عليه عدوه"( ).
وقال: أيضاً في تفسير قوله تعالى (يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) قال مجاهد: {لما يحييكم} يعني للحق, وقال قتادة: هو هذا القرآن فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة. وقال السدي: هو الإسلام أحياهم بعد موتهم بالكفر. وقال ابن إسحاق: عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير: واللفظ له{لما يحييكم} يعني للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل, وقوّاكم بعد الضعف, ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم.
وكل هذه عبارات عن حقيقة واحدة وهي القيام بما جاء به الرسول ظاهرا وباطنا.
قال الواحدي: والأكثرون على أن معنى قوله:{ لما يحييكم} هو الجهاد. وهو قول ابن إسحاق واختيار أكثر أهل المعاني. قال الفراء: إذا دعاكم إلى إحياء أمركم بجهاد عدوكم يريد انما يقوي بالحرب والجهاد, فلو تركوا الجهاد ضعف أمرهم واجترأ عليهم عدوهم.
قلت: الجهاد من أعظم ما يحييهم به في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة. أما في الدنيا فان قوتهم وقهرهم لعدوهم بالجهاد. وأما في البرزخ فقد قال تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} (آل عمران 169) وأما في الآخرة فان حظ المجاهدين والشهداء من حياتها ونعيمها أعظم من حظ غيرهم. ولهذا قال ابن قتيبة:{لما يحييكم} يعني الشهادة. وقال بعض المفسرين:{لما يحييكم} يعني الجنة. فانها دار الحيوان وفيها الحياة الدائمة الطيبة. حكاه أبو علي الجرجاني.
والآية تناول هذا كله, فان الإيمان والقرآن والجهاد تحيي القلوب الحياة الطيبة"( ).
4_ لا يخافون في الله لومة لائم: لأن غايتهم رضى الله سبحانه وتعالى لذلك لا يبالون بالناس يدعون للتوحيد ويُظهرون التوحيد ويدعون للسنة ويُظهرون السنة ويعملون بها.ولايبالون بالرعاع ولو سخط عليهم هؤلاء الهمج من الخلق ولو قالوا عنهم أنهم متشددون أو غير ذلك من الأنباز التي يُنبز بها أهل السنة لا يبالون ولا يرفعون لذلك رأساً.
بخلاف أهل البدع لا يتكلمون بالسنة ولا يدعون إلى السنة ويتكلمون في الأشياء التي تعجب العوام وتعجب الرعاع فيكثر الناس في محاضراتهم وفي دروسهم يريدون الأتباع يريدون تكثير السواد حولهم.
أما أهل السنة فليسوا كذلك . أهل السنة لايبالون بهذا ولا بأحد، إذا كانوا يصدعون بالحق ويتبِعون السنة ويُظهرون العلم فإنهم لا يبالون رضي من رضي وسخط من سخط هؤلاء هم أولياء الله.
ثم ذكر رحمه الله الآية الثالثة وهي قوله جل وعلا(أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) ( )
قال:ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى" واختلف أهل التأويل فيمن يستحق هذا الاسم فقال: بعضهم: "هم قومٌ يُذْكَرُ الله لرؤيتهم ، لما عليهم من سيما الخير والإخبات".
ثم ذكر من أقوالاً أخرى ومنها ما روي عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله : "إن من عباد الله لأناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله! قالوا: يا رسول الله ، أخبرنا من هم وما أعمالهم؟ فإنا نحبهم لذلك! قال: هم قوم تحابُّوا في الله بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوا الله إن وجوههم لنورٌ، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس" وقرأ هذه الآية
ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)".( )
وعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله: "يأتي من أفْنَاء الناس ونوازع القبائل قوم لم تَصل بينهم أرحام متقاربة، تحابُّوا في الله ، وتصافَوْا في الله، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها، يفزع الناس فلا يفزعون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون"( )
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال:الولي أعني _ولي الله_ هو من كان بالصفة التي وصفه الله بها، وهو الذي آمن واتقى، كما قال الله( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ).
وقال:ابن كثير رحمه الله تعالى" يخبر تعالى أن أولياءه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، كما فسرهم ربهم، فكل من كان تقيا كان لله وليا: أنه { لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي فيما يستقبلون من أهوال القيامة{ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما وراءهم في الدنيا.
وقال عبد الله بن مسعود، وابن عباس، وغير واحد من السلف:" أولياء الله الذين إذا رءوا ذُكِر الله" فهذا هو تفسير الولي أنه من آمن و جمع الإيمان والتقوى والإيمان و التقوى من المعاني التي بينها الله تعالى بيانا واضحاً".
تتمة
قال: شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:"وليس من شرط ولي الله أن يكون معصوما لا يغلط ولا يخطئ بل يجوز أن يخفى عليه بعض علم الشريعة ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين حتى يحسب بعض الأمور مما أمر الله به ومما نهى الله عنه ويجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها من كرامات أولياء الله تعالى وتكون من الشيطان لبسها عليه لنقص درجته ولا يعرف أنها من الشيطان وإن لم يخرج بذلك عن ولاية الله تعالى.
فإن الله سبحانه وتعالى تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فقال تعالى:{ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير }{ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين }.
وقد ثبت في الصحيحين أن الله سبحانه استجاب هذا الدعاء وقال: قد فعلت ففي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما نزلت هذه الآية {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير } قال: دخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها قبل ذلك شيء أشد منه فقال النبي " قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا" قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } إلى قوله { أو أخطأنا }.
قال: الله قد فعلت { ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا } قال: قد فعلت { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } قال: قد فعلت . وقد قال تعالى { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم }...................."( )
قال:الشيخ رحمه الله تعالى(ثم صار الأمر عند أكثر من يدعي العلم وأنه من هُداة الخلق وحفاظ الشرع إلى أن أولياء الله لا بد فيهم من ترك اتباع الرسل ومن تبعهم فليس منهم ولابد من ترك الجهاد فمن جاهد فليس منهم ولابد من ترك الإيمان والتقوى فمن تعهد بالإيمان والتقوى فليس منهم.......)
يشير الشيخ رحمه إلى المعتقد الباطل الذي تدعيه الصوفية في مسألة الولي والوَلاية وهو ترك اتباع الرسل وترك العلم الشرعي زعماً منهم أن الرسل إنما أرسلوا للعامة وأن الأولياء وهم الخاصة يتلقون عن الله مباشرةً عياذاً بالله تعالى وعلى زعمهم الباطل أن الولي لا يحتاج للنبي ولا للعلم الشرعي ولهذا جاءت عبارتهم بهذا المعنى الفاسد.
قال:الشيخ الألباني رحمه الله تعالى"الصوفية الذين يستغني أحدهم عن سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهديه وبيانه بما يزعمونه من العلم اللدني يرمز إليه بعضهم بقوله:" حدثني قلبي عن ربي "بل زعم الشعراني في " الطبقات الكبرى " أن أحد شيوخه( المجذوبين) والذين يترضى هو عنهم كان يقرأ قرآنا غير قرآننا ويهدي ثواب تلاوته لأموات المسلمين!".( )
وكان بعضهم يقول: إذا طالبوني بعلم الورق ... برزت عليهم بعلم الخرق.
لذا يقولون: أنتم تأخذون دينكم من ميت عن ميت. فتقولون: حدثنا عبد الرزاق -وقد مات- عن معمر -وقد مات- عن أيوب -وقد مات- وأما نَحْنُ فنأخذ علمنا عن الحي الذي لا يموت، -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
والصوفية قسموا الدين إلى قسمين : شريعةٌ وحقيقةٌ ، الشريعة للعلماء الجامدين الفقهاء الجامدين والحقيقة لمن؟
للعارفين بالله والواصلين إلى الله الذين استغنوا عن الشريعة ينظرون إلى اللوح المحفوظ فيأخذون التعليمات من اللوح المحفوظ رأساً ، زهدوا في الشريعة فيما جاء به النبي قالوا هذه مرحلة ، لأن السير إلى الله على مراحل. المرحلة الأولى : العمل بالشريعة ثم بعد ذلك : الانتقال إلى الحقيقة ، الحقيقة التي لا يعلمها إلا الخواص هم عندهم الخاصة وخاصة الخاصة ، هذا حقائق مكتوبة في الكتب في كتبهم .ولهذا قالوا مقولتهم الباطلة حدثني قلبي عن ربي.!!! ولا يصير الولي الآن في عرف كثير من المتأخرين إلا من بني على قبره قبةُ أو مسجدُ أما المدفون الذي دفنه على السنة الذي لم يوضع على قبره شيء فهو عندهم ليس بولي ولو كان من أفضل الناس.
ثم أيضاً عندهم الولي له زي خاص بأن يلبس عمامةً ويلبس ثوباً خاصاً.
مسألة:
وقوع الخارق للعادة والكرامة ليس دليلاً على صحة الطريق:
قال:شيخ الإسلام في معرض كلامه عن نقاشه للصوفية "ثم قلت لهم ومع هذا فلو دخلتم النار وخرجتم منها سالمين حقيقة ولو طرتم فى الهواء ومشيتم على الماء ولو فعلتم ما فعلتم لم يكن في ذلك ما يدل على صحة ما تدعونه من مخالفة الشرع ولا على إبطال الشرع فان الدجال الأكبر يقول للسماء أمطري فتمطر وللأرض انبتى فتنبت وللخربة أخرجي كنوزك فتخرج كنوزها تتبعه ويقتل رجلا ثم يمشى بين شقيه ثم يقول له قم فيقوم ومع هذا فهو دجال كذاب ملعون لعنه الله....."( )
وقال:أيضاً "وذكرت قول أبى يزيد البسطامي" لو رأيتم الرجل يطير في الهواء ويمشى على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف وقوفه عند الأوامر والنواهى" وذكرت عن يونس بن عبد الأعلى انه قال: للشافعي أتدري ما قال صاحبنا يعنى الليث بن سعد قال أو رأيت صاحب هوى يمشى على الماء فلا تغتر به فقال: الشافعي "لقد قصر الليث لو رأيت صاحب هوى يطير فى الهواء فلا تغتر به"( ).
وقال:رحمه الله تعالى:"وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الْكَرَامَاتِ قَدْ تَكُونُ بِحَسَبِ حَاجَةِ الرَّجُلِ ،فَإِذَا احْتَاجَ إلَيْهَا الضَّعِيفُ الْإِيمَانِ أَوْ الْمُحْتَاجُ أَتَاهُ مِنْهَا مَا يُقَوِّي إيمَانَهُ وَيَسُدُّ حَاجَتَهُ ،وَيَكُونُ مَنْ هُوَ أَكْمَلُ وِلَايَةً لِلَّهِ مِنْهُ مُسْتَغْنِيًا عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَأْتِيه مِثْلُ ذَلِكَ لِعُلُوِّ دَرَجَتِهِ وَغِنَاهُ عَنْهَا لَا لِنَقْصِ وِلَايَتِهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ فِي التَّابِعِينَ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي الصَّحَابَةِ ؛ بِخِلَافِ مَنْ يَجْرِي عَلَى يَدَيْهِ الْخَوَارِقُ لِهَدْيِ الْخَلْقِ وَلِحَاجَتِهِمْ فَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ دَرَجَةً"( )
تعريف الكرامة والمعجزة وبيان الفرق بينهما:
الْكَرَامَةُ لُغَةً :مَصْدَرُ كَرُمَ يُقَال: كَرُمَ الرَّجُل كَرَامَةً :وَفِيالاِصْطِلاَحِ تُطْلَقُ عَلَى عِدَّةِ مَعَانٍ:
فَتُطْلَقُ أَوَّلاً: بِمَعْنَى ظُهُورِ أَمْرٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ عَلَى يَدِ شَخْصٍ ظَاهِرِ الصَّلاَحِ غَيْرِ مُقَارِنٍ لِدَعْوَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَتُطْلَقُ ثَانِيًا بِمَعْنَى: الإْعْزَازِ وَالتَّفْضِيل وَالتَّشْرِيفِ وَتُطْلَقُ ثَالِثًا : بِمَعْنَى : إِكْرَامِ الضَّيْفِ.
والْمُعْجِزَةُ فِي اللُّغَةِ : هِيَ مَا يَعْجِزُ الْخَصْمُ عِنْدَ التَّحَدِّي.وَاصْطِلاَحًا : هِيَ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ مَقْرُونٌ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ قُصِدَ بِهِ إِظْهَارُ صِدْقِ مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ مَعَ عَجْزِ الْمُنْكِرِينَ عَنِ الإْتْيَانِ بِمِثْلِهِ وَعَلَى هَذَا فَالْمُعْجِزَةُ أَخَصُّ مِنَ الْكَرَامَةِ.
والمعجزة تكون للأنبياء، والكرامة للأولياء؛ أولياء الرحمن، والكهانة لأولياء الشيطان، والآن المعجزة لا يمكن أن تقع لأن الرسول آخر الأنبياء ولا يمكن أن تقع.
والكرامة موجودة من قبل الرسول ومن بعد الرسول إلى يوم القيامة، تكون على يد ولي صالح، إذا عرفنا أن هذا الرجل الذي جاءت هذه الكرامة على يده هو رجل مستقيم قائم بحق الله وحق العباد عرفنا أنها كرامة.
وينظر في الرجل فإذا جاءت هذه الكرامة من كاهن يعني:من رجل غير مستقيم- عرفنا أنها من الشياطين والشياطين تعين بني آدم لأغراضها أحياناً، فربما يكون مثلاً من السحرة من تحمله الشياطين إلى مسافات بعيدة وترده: قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ لسليمان عليه السلام: (أَنَا آتِيكَ بِهِ) يعني: بعرش ملكة اليمن : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ) [النمل:39] يأتي من اليمن من أقصى الجنوب إلى الشام، قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وكان معروف أنه يقوم من مقامه في ساعة معينة.اهـ
فائدة
النبوة هي أصل المعجزة والولاية هي أصل الكرامة فلا تحصل المعجزة الخارقة للعادة - التي هي أصل الكرامة في الجنس - إلا مع النبوة الصادقة، كما أنّ الكرامة الخارقة للعادة لا تحصل للولي إلا بمتابعته لشرع نبيّه.
فالمعجزة إذاً دليلٌ على النبوة الصادقة والكرامة دليلٌ على صدق الشاهد بالنبوة الصادقة وجامعهما: آية الله الخارقة الدالة على النبوة الصادقة.فهما من جنس واحدٍ.( )
مسألة:
هل الوَلاية أمر مكتسب أم هي اختيار واصطفاء كالنبوة؟ومما تقدم نعلم أن الولاية ليست مكتسبةً بالنسب، ولا مكتسبةً بالجاه، ولا مكتسبةً بالوراثة، ولا مكتسبة بملبسٍ معينٍ، أو بانتسابٍ إلى جهة معينةٍ كمذهبٍ أو غيره، إنما تكتسب بالعمل الذي دائرته الكبرى هي اتباع النبي ، وتقوى الله، لقوله سبحانه وتعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ }
والأولياء في مقدمتهم الأنبياء ؛ أنبياء الله جميعاً أولياء الله ؛ ليس كما يزعم بعض جهلة الصوفية أن الوَلاية شيء آخر غير الأنبياء وغير الرسل أي في زعم المتصوفة لا يطلق كلمة ولي أو الأولياء على الأنبياء والمرسلين هذا خطأ خطأ في التصور وهمٌ في طبيعة الأولياء ، في طبيعة أولياء الله تعالى الأنبياء ومن الأنبياء الرسل،ومن الرسل أولوا العزم ثم سيدهم على الإطلاق سيد الأولياء سيد ولد آدم محمدٌ رسول الله فهو سيد الأولياء وأولهم وأفضلهم على الإطلاق.
ولو فهم المسلمون جميعاً معنى الوَلاية وأن أنبياء الله كلهم من أولياء الله تعالى وفي مقدمة الأولياء الأنبياء ثم أتباعهم من أصحابهم ثم الأمثل فالأمثل من العلماء الربانيين الفاهمين لدين الله تعالى والفقهاء هؤلاء هم الأولياء . والولاية مرة أخرى أمر مكتسب ،لا يخضع للوراثة ،وليس بالاصطفاء بخلاف النبوة فهي اصطفاء واختيار من الله تعالى ليس للعبد فيها كسب ولا اختيار إذاً الفرق بين الولاية والنبوة؟
أن الولاية أمر مكتسب والنبوة بالاصطفاء النبي اللهُ سبحانه وتعالى هو الذي يصطفي من شاء من عباده يصطفيهم اصطفاء ويختارهم اختياراً ويربيهم تربية خاصة فيوحي إليهم النبوة بالاصطفاء لكن الولاية بالاكتساب تكتسب أنت الولاية بصرف النظر عن أبويك وعن أصلك وفرعك قد يعيش الإنسان في أول حياته عدواً لله فيتحول إلى وليٍ لله تعالى بالاكتساب تكتسب . بما تُكتسب الولاية بالإيمان الصادق الصحيح وبالعمل الصالح بالمتابعة للنبي وتقوى الله بطلب محبة الله تعالى بأداء الفرائض وتكميلها بالنوافل بمحبة الله والجهاد في سبيله وأن لا نخاف في الله لومة لأم يتذللون لإخوانهم أعزة على الكافرين هذه الصفات من حققها كان ولياً لله سبحانه. أما النبوة فلا يستطيع العبد تحصيلها بكسبه بل هي اختيار واصطفاء من الله تعالى.
قال الشيخ رحمه الله: (يا ربنا إن نسألك العفو والعافية إنك سميع الدعاء )
الهم آمين نسأل الله أن يعصمنا من هذه الأقوال الباطلة.
والعفو من الذنوب والعافية من الوقوع في طرق أهل البدع والضلال.
وقوله:إنك سميع الدعاء : أي مجيب الدعاء قال تعالى : { إن ربي لسميع الدعاء } .
انتهى الأصل الخامس ويليه بإذن الله الأصل السادس.
___________________________
( ) من مقدمة كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان تحقيق د/عبد الرحمن بن عبد الكريم اليحيى ص7/قدم له فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله تعالى.
( ) انظر شرح العقيدة الواسطية / للشيخ صالح آل الشيخ ص411/ ولسان العرب (15/409).
( ) ينظر شرح العقيدة الواسطية / للشيخ صالح آل الشيخ /ومنهاج السنة النبوية (7/28).
( ) ينظر شرح العقيدة الواسطية / للشيخ صالح آل الشيخ ص412.
( ) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص11.
( ) مجموع الفتاوى ج11_ص62.
( ) أذنته:أعلمته بأني محارِب لَهُ.
( ) رواه البخاري(6137) وغيره ولفظه عنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"إِنَّ اللَّهَ قَالَ "مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ"
( ) ينظر أضواء البيان.
( ) انظر الداء والدواء ص283.
( ) انظر تفسير القرطبي.
( ) رواه الإمام أحمد رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وصححه الألباني.
( ) الفوائد ص150 ط دار ابن الجوزي ترتيب الشيخ علي الحلبي.
( ) ينظر الفوائد ص131.
( ) الذين أمنوا بقلوبهم واتقوا بجوارحهم.
( ) قال:العلامة أحمد شاكر وهذا إسناد صحيح ينظر تفسير الطبري.
( ) قال: العلامة أحمد شاكر وهذا خبر صحيح الإسناد.
( ) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص85.
( ) حجة النبي صلى الله عليه وسلم كما رواها عنه جابر رضي الله عنه ص53 الحاشية .
( ) ينظر مناظرة شيخ الإسلام للبطائحية في مجموع الفتاوى (ج11_ص445).
( ) ينظر مجموع الفتاوى (ج11_ص467)
( ) الفرقان بين أولياء الرحمن واولياء الشيطان ص230/وانظر مزيد تفصيل حول المسألة الّلآلىء البهية في شرح العقيدة الواسطية للشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله تعالى (ص407_ص432).
( ) النبوات ص24